السيرة الإجمالية قبل النبوة
إن النبي كان قد جمع في نشأته خير ما في طبقات الناس من ميزات وكان طرازاً رفيعاُ من الفكر الصائب والنظر السديد ونال حظاً وافراً من حسن الفطنة وأصالة الفكرة وسداد الوسيلة والهدف وكان يستعين بصمته الطويل على طول التأمل وإدمان الفكرة واستكناء الحق وطالع بعقله الخصب وفطرته الصافية صحائف الحياة وشؤون الناس وأحوال الجماعات فعاف ما سواها من خرافة ونأى عنها ثم عايش الناس على بصيرة من أمره وأمرهم فما وجد حسناً شارك فيه وإلا عاد إلى عزلته العتيدة فكان لا يشرب الخمر ، ولا يأكل مما ذبح على النصب ولا يحضر للأوثان عيداً ولا احتفالاً بل كان من أول نشأته نافراً من هذه المعبودات الباطلة حتى لم يكن شئ أبغض إليه منها وحتى كان لا يصبر على سماع الحلف باللات والعزى .
ولا شك أن القدر حاطه بالحفظ فعندما تتحرك نوازع النفس لاستطلاع بعض متع الدنيا وعندما يرضى بإتباع بعض التقاليد غير المحمودة تتدخل العناية الربانية للحيلولة بينه وبينها ، روى ابن الأثير قال رسول الله: ما هممت بشئ مما كان أهل الجاهلية يعملون غير مرتين كل ذلك يحول الله بيني وبينه ثم ما هممت به حتى أكرمني برسالته، قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي الغنم بأعلى مكة : لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب ! فقال : أفعل فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفاً فقلت ما هذا ؟ فقالوا : عرس فلان بفلانة فجلست أسمع فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا حر الشمس فعدت إلى صاحبي فسألني فأخبرته ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك ،ودخلت بمكة فأصابني مثل أول ليلة ثم ما هممت بسوء
روى البخاري عن جابر بن عبد الله قال : لما بنيت الكعبة ذهب النبي وعباس ينقلان الحجارة فقال عباس للنبي : اجعل إزارك على رقبتك يقيك من الحجارة فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء ثم أفاق فقال : إزاري إزاري فشد عليه إزاره وفي رواية فما رؤيت له عورة بعد ذلك .
وكان النبي يمتاز في قومه بخلال عذبة وأخلاق فاضلة وشمائل كريمة فكان أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقاً وأعزهم جواراً وأعظمهم حلماً وأصدقهم حديثاً وألينهم عريكة وأعفهم نفساً وأكرمهم خيراً وأبرهم عملاً وأوفاهم عهداً وآمنهم أمانة حتى سماه قومه (( الأمين )) لما جمع فيه من الأحوال الصالحة والخصال المرضية وكان كما قالت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها : يحمل الكل ويكسب المعدوم ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق .